السبت, 04 سبتمبر 2010 05:23 وسام متى
مع انسحاب «آخر» جندي من القوات المقاتلة من العراق، يكون العد العكسي لحقبة السيطرة العسكرية المباشرة على بلاد الرافدين قد بدأ.
الانسحاب من العراق ومشروع الهيمنة على المنطقة: فشل استراتيجي أميركي... أم تغيير لقواعد اللعبة؟
جنود من الاحتلال الأميركي ينتظرون في معسكر «فرجينيا» في الكويت أمس للسفر الى الولايات المتحدة
وبالرغم من أن الحضور السياسي والأمني للاحتلال ما زال قائماً، إن في استمرار الهيمنة الدبلوماسية على القرار العراقي، أو في بقاء آلاف المرتزقة كقوة مساندة، فإنّ إخفاق أهداف الغزو قد عكس في الواقع فشلاً ذريعاً للمشروع الأميركي في الشرق الأوسط، الذي بدت مداميكه أشبه بحجارة دومينو بدأت بالتدحرج منذ هزيمة إسرائيل المدوّية في حرب لبنان عام 2006، وفشل «الثورة الخضراء» في إيران، وعجز الإدارة الأميركية عن التوصل إلى تسوية للصراع العربي ـ الإسرائيلي بشروط الدولة العبرية، وإن كان هذا المشروع ما زال قائماً بأدوات وتكتيكات جديدة.
وبصرف النظر عن سياسة التضليل التي انتهجتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لتبرير غزو العراق عام 2003 ـ ومن بين أدواتها «أنابيب المواد الكيميائية» التي عرضها وزير الخارجية الأميركي آنذاك كولن باول أمام مجلس الأمن الدولي، وسيل الاتهامات التي وجهت لنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين حول التعاون مع تنظيم «القاعدة» في «نشر الإرهاب» ـ فإنّ الأهداف الاستراتيجية للحرب بدت أبعد من ذلك، وقد عكستها جملة من المواقف العلنية والخطط السرية، اندرجت في معظمها تحت عنوان واحد: «الشرق الأوسط الجديد».
ويتفق معظم المحللين على أن غزو العراق شكل نقطة مفصلية في هذا المشروع بالنظر إلى الموقع الاستراتيجي لبلاد الرافدين في تلك الرقعة الجغرافية التي يشملها المشروع، والتي تمتد بين شمال أفريقيا وتخوم روسيا والصين، ولما أحدثه الغزو من انقلاب جيو ـ سياسي في المنطقة العربية، بعدما أصبح العراق الدولة العربية الأولى التي تخضع للاحتلال العسكري الأميركي المباشر، فيما يذهب آخرون إلى القول إنّ احتلال العراق كان شرطاً أساسياً لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، عبر نسف الأسس التي أرستها معاهدة فرساي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، والتي أوجدت دولة العراق بشكلها الحديث كنقطة تلاق بين إيران وبلاد الشام وشبه الجزيرة العربية.
يُذكر أن وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر سبق أن عبّر في الماضي عن أهمية العراق بالنسبة للمشاريع الأميركية في المنطقة، عندما كتب في مذكراته انّ «من يريد السيطرة على الأمتين العربية والإسلامية، فعليه أن يدمّر إرادة الأمة العراقية باعتبارها الحلقة الرئيسية فيهما».
وقبل الغزو بأشهر خرج الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ليعلن في مقابلة صحافية أنّ «تغيير النظام العراقي، إذا أقدمنا عليه، ستكون له أبعاد استراتيجية» (20/11/2002). ولعله كان يقصد تلك الاستراتيجية التي طرحها قبل ذلك بنحو ستة أشهر لإحكام السيطرة على المنطقة تحت شعار «شراكة مميزة مع الشرق الأوسط»، والتي باتت تعرف في ما بعد بـ«مشروع الشرق الأوسط الكبير».
أما الترابط بين احتلال العراق وهذا المشروع فقد أعرب عنه بوش بشكل واضح في أعقاب الغزو عندما قال إنّ «ما قمنا به في العراق بدأ يؤثر على الإصلاحيين ومحبي الحرية في الشرق الأوسط الكبير... وأعتقد أننا سنشهد قريباً صعوداً للديموقراطية في العديد من دول الشرق الأوسط، ما سيشكل أساساً لتحقيق السلام» (4/7/2005)، وهو ما سبقه إليه العديد من أركان إدارته أمثال جون بولتون وريتشارد بيرل وإليوت أبرامز ودونالد رامسفيلد وكوندليسا رايس.
ومع أفول عهد بوش، كان واضحاً أن التركة الثقيلة للحرب قد فاقت كل التوقعات، وهو ما دفع بخلفه باراك أوباما إلى انتهاج سياسة أكثر واقعية، عندما أمر بسحب تدريجي للقوات الأميركية من المستنقع العراقي. لكنّ هذه الخطوة قد أثارت في الواقع جملة أسئلة حول طبيعة الدور الأميركي الجديد في الشرق الأوسط.
قواعد اللعبة الجديدة
ويرى الكاتب اللبناني جيلبير الأشقر، في مقابلة مع «السفير»، أنه «بالنظر إلى الخطة الرئيسية لإدارة بوش، وهي إقامة قواعد عسكرية دائمة في العراق، على غرار ما حدث في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، يمكن القول إنّ مشروع الاحتلال الأميركي قد مني بفشل ذريع». ويشير الأشقر إلى مظاهر أخرى للإخفاق الأميركي في العراق بينها «الكلفة الباهظة للغزو»، التي تبدّت منذ الأشهر الأولى لعملية «حرية العراق»، بالإضافة إلى «العجز عن التأثير على المؤسسات السياسية» مع تعذر تشكيل حكومة جديدة، و«اضطرار واشنطن لتقاسم النفوذ مع إيران» في محاولة للتخفيف من خسائرها، فضلاً عن «الفشل في تمرير قانون النفط» الذي صيغ مشروعه قبل الاحتلال.
وإذ يعتقد الأشقر أنّ «الشرق الأوسط الكبير قد وُلد ميتاً، بعدما تخلت إدارة بوش عن هذا المشروع السخيف»، فإنه يرى أنّ الولايات المتحدة ما زالت متمسكة بأهدافها الاستراتيجية في المنطقة، المتمثلة بالهيمنة على الخليج ـ خاصة أن العالم قد بدأ يدخل في العقود الأخيرة للنفط ـ وإن كانت تسعى إلى تغيير قواعد اللعبة.
ويعتبر الأشقر أنّ ما يجري حالياً هو إعادة تنظيم للاحتلال الأميركي للعراق والمنطقة بأشكال جديدة، موضحاً أنّ قرار سحب القوات جاء في الواقع بناء على نصيحة من أحد الديموقراطيين في الكونغرس الذي رأى أنّ الاحتلال عملية فاشلة، وأنّه من الأنجع الإشراف على الوضع العراقي من القواعد العسكرية المتواجدة بكثرة في دول الجوار (تركيا، الكويت، قطر، البحرين...)، بما يضمن إمكان القيام بعمل عسكري في حال تعرضت المصالح الأميركية في العراق (لا سيما النفطية) لأي خطر، والتأثير على الحياة السياسية في هذا البلد، بطريقة تبدو مشابهة لتلك المعتمدة أميركياً في لبنان.
من جهته، يقول الخبير في شؤون السياسة الخارجية الأميركية، والأستاذ في جامعة «ميريلاند» عادل شامو لـ«السفير» إنّ «الانسحاب الأميركي من العراق يقاس بالوقائع على الأرض. فالولايات المتحدة ستحتفظ بخمسين ألف جندي من القوات غير المقاتلة، بالإضافة إلى مئة ألف عنصر من المرتزقة، و4500 من القوات الخاصة. ولكل من هؤلاء الحق في القتال واعتقال الأشخاص والتحقيق معهم. وبالتالي فإنّ الوجود الأميركي في العراق سيبقى قائماً في المستقبل المنظور».
ويتفق أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة «سان فرانسيسكو» ستيفن زيونز مع هذا الرأي، إذ يوضح لـ«السفير» أنه «مع وجود هذا العديد الضخم جداً من العسكريين والدبلوماسيين والمرتزقة، ينبغي التساؤل عما إذا كانت الولايات المتحدة ستنسحب فعلاً من العراق»، وهي شكوك يعززها، بحسب زيونز، «الهدف الأساسي، وهو الإبقاء على 14 قاعدة عسكرية ضخمة، وحكومة دمى، وهيمنة سياسية واقتصادية واضحة على البلد»، لكنه يرى أنّ «هدف تحويل العراق إلى نموذج نيو ـ ليبرالي أميركي لبقية دول الشرق الأوسط قد فشل بوضوح»، موضحاً أنّ «إيران وبقية دول المنطقة ستسعى إلى التأثير على فصائل سياسية عراقية لا تجد مصلحتها مع الولايات المتحدة».
وحول السياسة الأميركية الجديدة في العراق والمنطقة، يرى شامو أنّ «الولايات المتحدة بدأت في الواقع تغيير استراتيجيتها في الشرق الأوسط، عبر التركيز على دور الدبلوماسيين والمتعاقدين»، متوقعاً أن ينصب اهتمام واشنطن في الفترة المقبلة على التعامل مع القوى المناهضة لمصالحها، سواء في العراق أو في دول الجوار.
أما زيونز فيرى أنّ «إدارة أوباما ستسعى إلى فرض نفوذها في المنطقة بطرائق أخرى، عبر تقليل الاعتماد على التدخل العسكري المباشر، لصالح التركيز على مبادرات متعددة الأطراف». ويوضح أنّ «الولايات المتحدة ستواصل دعم الحكومات الحليفة لها عبر تزويدها بالأسلحة وتوفير أشكال أخرى من الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي لهذه الدول، بغض النظر عن مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان»، لافتاً إلى أنّ «الهدف من ذلك كله هو فرض السيطرة الأميركية إلى أقصى حد، من خلال رؤية واقعية يمكن تحقيقها».
من ينافس واشنطن؟
وثمة سؤال يفرض نفسه، عند الحديث عن «الانسحاب الكامل» لقوات الاحتلال في نهاية العام 2011، وهو تحديد الجهة التي يمكن أن تملأ أي فراغ أميركي محتمل في العراق. وفي هذا السياق، يشير الأشقر إلى روسيا كقوة «عادت إلى حلبة الشرق الأوسط بعد انتهاء حقبة بوريس يلتسين، وبروز مشروع امبراطوري روسي جديد بعد وصول فلاديمير بوتين إلى الكرملين»، لافتاً إلى أنّ «روسيا ستسعى إلى اللعب على التناقضات في المنطقة، وستحاول استغلال فجوات الهيمنة الأميركية»، وهذا ما تبدّى في إسهامها في انطلاق عمل محطة بوشهر الإيرانية الشهر الماضي، علماً بأنّ مناطق الصراع على النفوذ بين واشنطن وموسكو متعددة، ولعل أبرزها في آسيا الوسطى. وفيما يرى شامو أنّ «اللاعبين الدوليين سيكتفون بدور مساعد لواشنطن كما درجت العادة»، فإن زيونز يعتبر أن «للمجتمع الدولي مصلحة في القضاء على التطرف والترويج لتنمية اقتصادية وسياسية مستدامة»، لكنه يشير إلى أنّ «الدول الغربية ما زالت متمسكة بالنزعة الاستعمارية الكولونيالية وعلاقتها بالولايات المتحدة، في الوقت الذي لا يمكن التعويل كثيراً على دور روسي أو صيني، فيما تبقى الأمم المتحدة ضعيفة بالنظر إلى قلة مواردها المالية، وفي ظل وجود حق النقض الذي تحتفظ فيه الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن».
وبغض النظر عن مصداقية هذا الانسحاب، يبدو أن للولايات المتحدة، كقوة امبراطورية، أساليبها الخاصة لتحقيق مصالحها، ولعل هذا ما عبّر عنه قبل سنوات الأب الروحي للمحافظين الجدد برنارد لويس، الذي اعتبر أنّ «الحروب القــادمة في الشــرق الأوســط لن تكون بين الدول بل ستكون داخلــها»، فهل يكون اللعب على التناقضات الطائفــية والــعرقية في العراق، سواء بين السنة والشيعة أو بين الأكراد والعرب، نموذجاً يمكن تعميمه على بقية دول المنطقة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق